إلي رحمة الله
معالي
الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري رحمه الله
1336-1428هـ = 1918-2007م
يوم الأحد :
24/ جمادى الأولى (بالتقويم السعودي) و 23/ منه (حسب التقويم الهندي) 1428هـ ،
الموافق 10/ يونيو 2007م انتقل إلى رحمة الله تعالى الأديب العصاميّ والمفكر
السعودي النابغ معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري نائب رئيس الحرس
الوطني المساعد عن 92 عامًا من عمره ، وهو عمرٌ مديد أمضاه حافلاً بالعطاء
والإنجاز في شتى مجالات العمل والفكر والثقافة والأدب والإدارة .
كان الشيخ
التويجري – حقًّا – عِصَامِيًّا ولم يكن عِظَامِيًّا كما يقول العرب الأقحاح ؛ حيث
صنع نفسه بنفسه ، وبنى بدوره شخصيته مُمَدَّة بجيمع ما تمكّن منه ووُفِّقَ له من
عناصر الفضل والعظمة ، سَاعَدَه في ذلك مواهبُه الطبيعيّة ، وطموحُه وكفاحُه ،
وجدُّه واجتهادُه ، وصبرُه ومثابرتُه ، وحبُّه الثابتُ للعلا ، وعشقُه الصادقُ
للمجد والسموّ . لم يَتَعَلَّمْ في مدارس وكليات نظامية ، ولم يتخرّج منها حاملاً
للدكتوراه ، والشهاداتِ العالية ، التي تُعَدُّ اليوم رمزَ الكفاءة العلمية
الموثوق بها ، حتى أَضْحَتْ دورُ العلم والمؤسساتُ الإدارية والتجارية والصناعية
وقطاعاتُ الأعمال الهامّة لا تقيم وزنًا لمن لم يحمل شهادة «د» من جامعة
وقورة أو كليّة تابعة لها ؛ فكلُّ الإجراءات إنما تجري بعد تصنيف المتقدمين كفاءةً
علمية أي حاملين لشهادة «د» أو على
الأقل ما دونها من الشهادات ، بالإضافة إلى الخبرات الكافية الممتدة على عدّة
سنوات .
الشيخُ
التويجريُّ كان نموذجًا حيًّا لعبقريّ أَنْتَجْتُه الصحراءُ العربيةُ التي أنتجت
في التاريخ نماذجَ من الأدباء والشعراء والمثقفين لم تتكرر بعدُ؛ فهو من المتخرجين
في مدرسة الحياة والتجارب والأيام التي تُعَلِّم الذكيَّ المنتبهَ والعبقريَّ
الواعيَ مالا تُعَلِّمه المدارس والجامعات ذات العدد الهائل من الأساتذة والمباني
الشامخة .
ولَعَلَّ ثقته
الكبيرة بذاته التي أَكْسَبَه إيّاها اليتمُ الذي تَجَرَّعَ مرارتَه وهو في
السادسة من عمره ؛ لأن من طبيعة الإنسان أنّ مواهبه تتفجّر عندما يُلِحُّ عليه
شعورُه بالحرمان ، ويُؤَكِّد له أنّ مكاسب الحياة لن يحظى بها إلاّ إذا شَقَّ
طريقه في الحياة بنفسه ولو احتاج أن ينحته من الصخر ويُمَهِّدَه بين الجبال .
الشعورُ بالحرمان مُعَلِّمٌ لايعدله مُعَلِّمٌ مهما كان عبقريًا .
يقول الشيخ –
رحمه الله – في كتابه الشهير «لسراة الليل هتف
الصباح» :
«ما عَلِقَ
بذاكرتي أنّي من مواليد «المجمعة» – منطقة «سدير» في قلب
نجد – مات أبي وعمري ستُّ سنوات ، وفي أيّامنا البسيطة تلك في كل شيء، كان لمجتمع
القرية فضائل لايشعر معها اليتيم والصغير بإحساس مرارة اليتم .. كلُّ القرية
أهلُنا، أسرتي تتساوى وتتآخى مع جميع أسر القرية في حبّ ووئام . استلمتُ عملاً
رسميًّا وعمري يقارب الثامنة عشرة . ومن ذلك اليوم إلى يومي هذا وعملي متواصل في
خدمة الدولة . ثقافتي اكتسبتُها من تجربتي في الحياة ، وبما تيسّر لي قراءتُه من
كتب .. جيبي خالٍ من الشهادات ؛ فالحياةُ مُعَلِّم ، والناسُ مُعَلِّم ، والتاريخُ
وأحداثُه مُعَلِّم ، على العموم لم يكن لي مُعَلِّم واحد ، لم أدخل مدرسةً سوى
الكُتَّاب» .
كان الشيخ ابن
سبعة عشر عامًا إذ صار جنديًّا مُتَطَوِّعًا في جيش الملك عبد العزيز مُوَحِّد
الجزيرة العربية ومؤسس «المملكة العربية
السعودية». وفي عام
1350هـ / 1931م بَدَا له أن يقصد الملك ويتقدم إليه برسالة يطلب إليه فيها أن
يُوجِدَ له وظيفةً ؛ فأمر الملك أن يُنْقَلَ أخوه «حمد» رئيسًا
لبيت المال بالقصيم ، ويتم تعيين الشيخ عبد العزيز التويجريّ مكانه مشرفًا عامًّا
لبيت المال بالمجمعة وسدير والزلفي .
فتوالت خدماته
الوطنية منذ أن كان شابًّا ؛ ففي عام 1357هـ / 1938م عُيِّن بأمر من الملك عبد
العزيز رئيسًا لمالية المجمعة وسدير والزلفي ، وفي عام 1381هـ / 1961م عُيِّن
وكيلاً للحرس الوطني ، وفي 1395هـ/1975م عُيِّن نائبًا مساعدًا للحرس الوطني
بالمرتبة الممتازة ، وفي 1397هـ / 1977م تم ترقيته بمرتبة وزير ، وفي 1399هـ /
1979م انتخب عضو اللجنة التحضيرية لمجلس الأمن الوطني ، وفي 1400هـ /1980م عين
عضوَ مجلس القوى العاملة ، وفي 1406هـ /1986م عين عضوَ المجلس الأعلى للدفاع
المدني ، وفي 1407هـ /1986م عين نائب رئيس مجلس إدارة مكتبة الملك عبد العزيز
العامة ، وفي 1411هـ /1991م عين نائب رئيس اللجنة العليا في الحرس الوطني .
كما عين –
رحمه الله – عضوًا في اللجان العليا الثلاث ، التي أَعَدَّت النظام الأساسي للحكم
ونظام المناطق ونظام مجلس الشورى ، والتي صدرت في مارس 1992م (شوال 1412هـ) . وعين
نائب رئيس اللجنة العليا للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (مهرجان الجنادرية) الذي
كان أحد أركانه الأساسيين . وقد تمكن من خلاله
من التواصل الكبير مع العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين في العالمين
العربي والإسلاميّ ، والذي تجلت فيه قدرته العبقرية على الإدارة والتنظيم وخدمة
التراث والثقافة ، التي سخرها لخدمة بلاده الشريفة بعطاء فريد لاينفد . كما كان
نائب رئيس هيئة الإشراف على مجلة الحرس الوطني التي تصدر شهريًّا .
وبما أنه –
رحمه الله – أكرمه الله بالعمر الطويل ، فأتيح له أن يقدم خدماته ويقوم بإنجازاته
في عهود كل من الملك المؤسس عبد العزيز والملك سعود ، والملك فيصل ، والملك خالد ،
والملك فهد، والملك عبد الله حفظه الله .
لقد شاركتُ
مهرجانَ الجنادريّة في عامين مختلفين ، وكانت مشاركتي فيه أول مرة على دعوة من
السفارة السعودية بدهلي الجديدة ، وفي المرة الثانية كانت الدعوةُ لي مُوَجَّهَةً
رأسًا للمشاركة فيه من إدارة المهرجان ، وعلى رأسها الشيخ التويجري – رحمه الله –
الذي لقيتُه أكثر من مرة خلال استضافته في كلتا المرتين لضيوف الجنادرية ، فوجدتُه
غاية في التواضع والبساطة مع وقاره الجم ، وجدّيته البالغة ، اللذين كان يميزهما
ابتسامتُه الدائمة وهدؤه الثابت اللذان كانا جمالاً فاخرًا على تميزه وعبقريته
وكونه خريجَ مدرسة الصحراء العملاقة .
إن الشيخ
التويجري كان في العصر الحاضر مثالاً رائعًا للعبقري العفوي الذي ثـَقَّفَ نفسه
بنفسه ؛ فلم يبق متوسطاً ، فضلاً عن أن يكون «مثقفًا» من الدرجة
الثالثة ، وإنما أصبح مُجَلِّيًا وقمةً بين الأدباء والمثقفين مع عبقريته الإدارية
التي تخرج في مدرستها كثيرٌ من الإداريين ورجالات الفكر والعمل .
لقد بَهَرَ
التويجري الكاتب الأديب المفكر العفويّ المتخرج في مدرسة الحياة والتجربة والصحراء
معظمَ الأدباء والمثقفين في بلاده وفي العالم العربيّ ، بما أنتجه فكره الشامخ من
النماذج الأدبية الكتابية التأليفية في شتى الموضوعات : التاريخية ، والترجمية ،
والأدبية ، التي أملاها على بعض بناته وبنيه ، والتي لم يستعجل في إخراجها
وإصدارها ، وإنما سمح لها بالصدور عندما بلغ من عمره الستين ؛ فكان في إصدارها «زُهَيْرِيًّا» حيث كان
زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي العظيم (نحو 530 – نحو 627م) كان لايدع لقصائده
تظهر للناس إلاّ بعد أن يحول عليها على الأقل الحول أي العام ، وكان خلال ذلك
يُهَذِّبها ويُشَذِّبُها ويجعلها تُرْضِي قريحتَه الأدبية وطبيعته الشعريّة .
وهذه أيضًا
قيمةٌ فكرية ثقافية عالية امتاز بها الشيخ التويجريّ عن غيره من المثقفين
المتخرجين في المدارس والجامعات العاديّة ؛ فكان عبقريًّا أيضًا من هذه الناحية .
إن معظم المؤلفين قد يُعَالُ صبرُهم إذا مضت ليلة واحدة على إنجاز تأليف ؛ فهم
يودّون أن يكتبوا ليلاً ، فيصدر ما يكتبونه سحرًا أو نهارًا على الأكثر .
ونظرًا إلى
سموّ الخيال ، ونضج الفكر، والتعمق الدراسي ، والرشاقة الصياغية ، واللمسات
الأدبية ، والرؤى الثقافية الثاقبة ، والنظرات الإبداعية البارعة ، التي يمتاز بها
كتُبُه، شكّ بعضُ الحاقدين في أن يكون التويجري العفويّ التثقيف ابنُ البادية القح
– الذي لم يتلمذ على دكتور ، ويجلس إلى حلقة أديب أو معلم بعد مرحلة الكتاب –
صَاحِبَها ؛ فقالوا : إنّها أُلِّفَتْ له، أي قامَ بتأليفها غيرُه لقاءَ مكافأة
ماليّة ثم نَحَلَها هو نَفْسَه . وكأنهم استبعدوا أن تتأتى أمثالُ هذه المؤلفات
ذاتُ الصياغة الدقيقة وما تمتاز به من المزايا الجمّة لمثل هذا الرجل «شبه
الأمّيّ» ،
ولاتتأتى في الأغلب للأكاديميين حاملي الدكتوراه من الأدباء والمؤلفين!.
لقد جُبِلَ
التويجريُّ على الإتقان والبراعة في كل عمل مَسَّه ؛ من هنا ركن إليه ملوك المملكة
بدءًا من الملك المؤسس إلى خمسة ملوك من أولاده، فولّوه جلائلَ المناصب التي شغلها
عن جدارة وأهليّة لا يُتَصَوَّر فوقهما . ومن هنا أعجب به كل المثقفين والزملاء في
العمل ، ومن هنا حَزِنَتْ عليه المملكة شعبًا وحكومةً حزنًا قلما تحزنه أو
حَزِنَتْه ، ومن هنا أجمعت الألسنة على الثناء عليه وحسن ذكره ؛ ولذلك سيظلّ حيًّا
بعد الموت .
ومن ثم حَظِيَ
بتكريمات عديدة كان جديرًا بها وبغيرها ، منها ما يلي :
· شهادة
تقدير من حامعة «جورجيا» كإحدى
الشخصيات المشاركة بالدراسة المتعلقة بصانعي القرار الاستراتيجي .
· عدد
من الأوسمة والميداليات التقديرية.
· خطابات
تقدير وشكر من معظم الشخصيات العالميّة والعربية : السياسية ، والأدبية ،
والثقافية.
· دعي
للمشاركة في الكثير من مؤتمرات القمة الخليجية والعربية والإسلامية والدولية .
· ولم
يكن التويجريُّ رجلَ علم وفكر ، وثقافة وأدب، أو رجل إدارة نابغ فقط ، وإنما كان
إلى ذلك رجلَ برّ وكرم ، وخير ومعروف . ولو كان رجلَ علم وإدارة فقط لما أحبّه
الناس على اختلاف قطاعاتهم هذا الحبّ الغامر الذي شهده الناسُ يومَ تشييعه إلى
مثواه الأخير؛ لأن يومَ الجنازة شهادة ناطقة لصاحبها ؛ فبقدر ما يحضر الناس
الجنازةَ ، يُقَدَّر حبُّ الناس له ، وإعجابهم به ، ومعرفتهم لفضله ومعروفه وبرّه
بهم .
كان للشيخ
التويجريّ رحمه الله باع طويل في فعل الخيرات ، وتحريض الناس عليه ؛ فكان لايساهم
فقط في بناء المساجد وإنجاز المشاريع الإسلامية فقط ، وإنما كان دائم المتابعة
لأحوال الفقراء والمساكين وذوي الحاجة من اليتامى والأرامل ، كان ينفق عليهم مما
عنده ويدعو الآخرين لمدّ أيدي العون والمواساة لهم . وإلى جانب ذلك أنشأ بجامعة «لندن» قاعة باسم
«قاعة الشيخ
عبد العزيز التويجري» بمركز الأبحاث والكبد ، كما ساهم في إنشاء
كرسي زمالة باسمه في جامعة «هارفارد» بأمريكا ،
وهو يُعْنَى بتوفير منح دراسية للطلاب المتفوقين ، ولاسيّما لطلاب العالمين العربي
والإسلاميّ .
وكان يوصي
دائمًا ولاةَ الأمر السعوديين بالمشاركة الفاعلة في الجمعيات الخيرية ، وتقديم
الدعم المطلوب لأهل الظروف الخاصة . وكان منزله موردًا للناس من جميع القطاعات
الفكرية والاجتماعية ، لخلقه الحسن ، وخصاله الجميلة ، ودوام تواصله مع الناس :
عوامهم وخواصّهم .
مؤلَّفاته الهامة :
1- في
أثر المتنبئ بين اليمامة والدهناء – المكتب المصري الحديث ، القاهرة 1979م .
2- حتى
لايصيبنا الدوار (رسائل إلى ولدي) الدار العالمية ، لندن ، 1983م .
3- منازل
الأحلام الجميلة (رسائل إلى ولدي) الدار العالمية ، لندن ، 1983م .
4- حاطب
ليل ضجر – دارالشروق ، القاهرة ، 1987م .
5- أبا
العلاء ضجر الركب من عناء الطريق – مطبعة الفرزدق ، الرياض ، 1990م .
6- لسراة
الليل هتف الصباح (الملك عبد العزيز، دراسة وثائقية) دار رياض الريس ، بيروت 1997م
.
7- ذكريات
وأحاسيس نامت على عضد الزمن، – دار الساقي ، بيروت ، 2000م .
8- رسائل
خفتُ عليها من الضياع – دارالساقي، بيروت ، 2001م .
9- عند
الصباح حمد القوم السرى (الملك عبد العزيز ، دراسة وثائقية) دارالساقي ، بيروت،
2004م .
10-
أجهدتني التساؤلات معك
أيها التاريخ! – دارالساقي ، بيروت .
11-
ركب أدلج في ليل طال
صباحه – دارالساقي، بيروت ، 2006م .
12-
الإنسان رسالة وقارئ –
دارالساقي ، بيروت، 2006م .
13-
رسائل وما حكيتُه في
بيتي – دارالساقي ، بيروت، 2006م .
وخلف رحمه
الله إلى جانب حرمه ، شقيقه الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التويجري ، وأبناءه
الستة ، وهم : معالي الأستاذ عبد المحسن التويجري مستشار خادم الحرمين الشريفين
الملك عبد الله حفظه الله ، وسعادة الأستاذ عبد الله التويجري ، وسعادة الأستاذ
محمد التويجري ، وسعادة الأستاذ حمد التويجري ، ومعالي الأستاذ خالد التويجري رئيس
الديوان الملكي ، وسعادة الأستاذ عبد السلام التويجري ، وعدة بنات . الهمهم الله
جميعًا الصبرَ الذي لاينفد ، والسلوان الذي لاينقطع ،وسار بهم على خطى الفقيد
العظيم ، وأدخله فسيح جنّاته .
وقد تأخرّتُ
في كتابة هذه السطور عن الفقيد، تحت ضغط الأشغال الملحة التي فرضت عليّ نفسَها في
وقتها ، إلى عوارض داء السكّري التي تقعد بي كثيرًا عن التقيد بمواعيد الأعمال .
*
* *
مجلة الداعي الشهرية
الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر
2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.